لقد قرر ان يقتل بداخله حب الأرض و حب امتلاكها،و أن يمضي الى حيث اللامحدود.لقد قرر أن يتخلص من ادمانه اليومي على تجريد الواقع من ملابسه الداخلية قبل أن تطأ قدماه أرض عالمه المتخيل الجميل،فوجئ بوجود آدمي عليها،و قد أسرعوا لاستقباله ببنادق و مسدسات تحمل توقيع انسان الارض
سمع صوتا جهوريا يأمره برفع يديه الى أعلى.تقدم منه شخص قوي البنية ،فتشه،لم يجد شيئا عنده،سوى ورقة صغيرة كتب عليها:ًهذا انسان أتعبته إنسانيتهً
حملق الرجل في وجهه قليلا،و بلهجة تحمل في نبراتها أنين المخافر سأله
ما اسمك؟
صابر
اسم الاب؟
عبد الصبور
اسم الام؟
صابرين
بلدتك؟
صابرستان
و ما الذي اتى بك الى هذا المكان؟
نفاذ صبري
اسمع يا أخ صابر إننا نعرفك جيدا و نعرف من أنت و من تكون.لقد توصلنا بإشارة من الأرض يخبروننا فيها بقدومك الى هنا،فكن متعاونا معنا حتى نتم هذه المهمة بسلام
و حتى و أنتم بعيدون على الأرض تراكم تتحدثون عن السلام و أياديكم تلوح لجرائم مرتقبة
اخرص يا ولد ال...يجب أن نعلمك أولا كيف تخاطب أسيادك.خذوا هذا الكلب الأجرب الى بيت الضيافة
دخل صابر الى العنبر الكبير الواسع و هو منهك القوى لا يقدر على المشي،من جراء ما لحق به من ضرب و تعذيب.سرح بعينيه داخل الزنزانة و كأنه يبحث عن وجوه ألفها
في زنازن الأرض.سمع صوتا يناديه باسمه
صابر ،صابر إننا هنا
لقد كان المكان مملوءا عن آخره.راى عدة وجوه كان يعرفها فقط من خلال الصحف و المجلات،و لم يسبق له ان التقى بها مباشرة
وقف الجميع مهللا و مباركا قدومه عندهم،كان تصفيق الرجال و زغاريد النساء
مدويا في الزنزانة .لقد كان المشهد مؤثرا لدرجة أنه أحس برغبة ملحة في البكاء
تقدم منه رجل في عقده الخامس،يحمل ريشة و رسم كاريكاتوري ُكتب عليه:حنظلة
على سطح القمر. ربث على كتفيه ثم قال:لا تبك يا صابر فلقد انتهت رحلة عذابك بانتصار انسانيتك و بهزيمة وحشيتهم،لقد عبرت جسورهم المكسورة بصبر الأنبياء.تجلد فلا مكان هنا للدموع
رفع رأسه من جديد بحث في جيوبه عن منديل يجفف به دموعا انهمرت على لحيته الكثة
كالطوفان.لم يجد اي شيء .اقتربت منه صبية في عقدها الاول،تحمل في يدها دمية ،قبلته على خده ،و بطرف معطفها الصغير مسحت دموعه،و بصوت خافت يحمل في نبراته جرحا دفينا قالت:كفاك بكاءا يا عم صابر اننا نعمل هنا و باستمرار على ترميم ما ألحقته سكينة الارض بنا.فكن قويا بسخريتك منها،و لا تكن ضعيفا ببكاءك عليها و على نفسك
انظر الى هذه الوجوه التي امامك انهم جميعا من ضحايا الكلمة،لقد استعذبوا المكان و استصاغوه لا لشيء سوى لان بالكلمة نحيا و بها نموت
حملها و دميتها بين يديه،قبلهما معا و كأنه يقبل جسدا واحدا موحدا
ما اسمك يا صغيرتي؟
انا اسمي بيسان،لقد احضروني الى هنا خطأً اذ كان المقصود الاول في حكمهم هو خالي غسان،ذاك الواقف هناك صحبة أم سعد هل عرفتهما؟
نعم نعم أعرفهما ،و أعرف تفاصيل رحيلكم من الأرض،لكن استبشري فبعودة غزة و اريحا عاد الينا الوطن
لا لا وطني ليس هو غزة و اريحا فقط،بل أوسع من ذلك.وطني هو الخليل هو حيفا و يافا و الراملة و الجليل.وطني يا عم صابر هو القدس
قالت قولها هذا و جلست تهمس في أذن دميتها بصوت مبحوح مجروح:ًاليس كذلك؟؟أليس كذلك؟؟ً
نظر إليها نظرة عمرت ظهراً ثم راح يسبح بخياله في فضاء مليء بخطابات تحكي زمن التطبيع.رأى وجوها تلاشت ملامحها،ظل يحملق فيها محاولا مساءلتها.فتح عينه اليمنى رأى نفسه ممدداً على سريره الطويل و المريح،و بجانبه امرأة أو ربوة من اللحم-كما كان يسميها دائما-و قد ملأت غرفة النوم بشخيرها ،أما عينه اليسرى فقد ظلت متمسكة بصورة الصبية و هي تصيح مخاطبة دميتها:ًوطني يا عم صابر هو القدس ،وطني يا عم صابر هو القدسً
علي مفتاح
قصة قصيرة